من أَجَلِّ نِعَمِ الله على الإنسان نعمة البيان، قال: {الرَّحْمَنُ (1)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}
[الرحمن: 1-4].
ومِن ثَمّ كان على الإنسان أن يُحْسِنَ استخدام
هذه النعمة، فلا يكون نطقه إلاَّ ما فيه طاعةٌ لله، وإلاَّ فالصمت
أَوْلَى؛ وذلك لأن للثرثرة ضجيجًا يَذْهَب معه الرشدُ، ويقلُّ معه الصواب؛
ولذلك فالإسلام يُوصي بالصمت ويعدُّه وسيلة ناجحة من وسائل التربية
المهذَّبة، إذ استقامة اللسان من علامات استقامة القلب، قال: "لا
يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا
يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"[1].
ولأن
الإسلام يكره التفاهات وسفاسف الأمور فقد كره اللغو ونهى عنه، وجعل الإعراض
عنه من صفات المؤمنين، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا
عَنْهُ} [القصص: 55]. كما أن في كثرة الكلام بلا فائدة مضيعةً للعمر في
غير ما خُلِقَ الإنسانُ له من جدٍّ وإنتاج، وبقدر تنزُّه المسلم عن اللغو،
تكون درجته عند الله.
لذلك فإن الإنسان مُطالب بأن يتكلَّم
بالخير وبالطيب العفِّ من الكلام، سواءٌ مع أصدقائه أو أعدائه؛ فإنه مع
الأصدقاء يحفظ مودَّتهم ويستديم صداقتهم، ومع الأعداء يُطفئ خصومتهم ويكسر
حِدَّتهم.
وعظماء الرجال يلتزمون في أحوالهم جميعًا ألاَّ تبدر
منهم لفظة نابية، ويتحرَّجون مع صنوف الخَلْقِ أن يكونوا سفهاء، أو
متطاولين؛ إذ لا يسوغ لعاقل أن يفقد خُلُقه مع مَنْ لا خُلُق له، ولذا عدَّ
القرآن هذه المداراة العاصمة من أوائل صفات عباد الرحمن، {وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63].
ومن
الضمانات التي اتخذها الإسلام لصيانة الكلام عن النَّزق[2] والهوى -
تحريمُهُ الجدل، وسدُّه لأبوابه، حقًّا كان أو باطلًا.
غير
أنَّ هناك من الناس صنفًا تستهويهم شهوة الكلام، فلا يملُّونه أبدًا،
فيسلِّطون ألسنتهم على شئون الناس، وعلى حقائق الدين، فيُشَوِّهون هذه
وتلك، وقد سخط الإسلام أشدَّ السَّخَطِ على هذا الفريق الثرثار المتقعِّر،
قال: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ"[3].
والإسلام
أيضًا يكره مجالس القاعدين، الذين يقضون أوقاتهم في تَسَقُّطِ الأخبار،
وتتبُّع العيوب، وقد فشا في عصرنا هذا جلوس الجماهير في النوادي والمشارب،
وتلك آفة أصابت المجتمع بعللٍ شتَّى، وقد كثرت في المدائن والقرى لغير
ضرورة مشروعة.
إنَّ الإسلام يحثُّ على أدب الحديث، وينهى عن
لغو الكلام، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}
[المؤمنون: 1-3].
[1] أحمد (13071) عن أنس بن مالك t، وقال شعيب
الأرناءوط: إسناده ضعيف. والبيهقي: شعب الإيمان (8)، ومسند الشهاب القضاعي
(827).
[2] النزق: الخفة والطيش. ابن منظور: لسان العرب، مادة نزق
10 352.
[3] البخاري: كتاب المظالم، باب إذا أذن إنسان لآخر شيئًا
جاز (2325) عن عائشة رضي الله عنها، ومسلم: كتاب العلم، باب في الألد
الخصم (2668).
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر:
موقع قصة الإسلام