الطعام والعيون
-1-
أتذكر يا غراب ذلك اليوم الذي دخلت فيه مدينتنا؟ لا، لا
أظنك تذكر ذلك، بل لا يمكنك أن تذكره أبداً. فقد اختفت عنك الذاكرة، مسحها
الظلام من رأسك. ألم تكن رسولاً للظلام؟ أجل، كان ذلك اليوم رطباً خانقاً،
ولم تكن في السماء كلها بادرة مطر واعدة. وأقول السماء كلها، لأن السماء
كانت سماءنا أيضاً.. مثل المدينة".
[size=12]
حين خطوت فوق شارع الثروة.. وهل كان مجيئك دونما سبب من
ثروة؟ كان وقع خطاك صدى عابراً، وكانت ابتسامة عينيك مؤقتة، وذلك ما لم تكن
تفكر فيه في الوهلة الأولى، كنت تحسب أن الطريق الذي كنا قد بدأناه، لم
نشقه إلا من أجلك. لقد كنت مخطئاً كل الخطأ، كان كل ما أحاط بك زائلاً..
زوال ظل غيرك! [/size]
[size=12][size=12]
لقد كان يوماً صرخت فيه عصافيرنا في فزع وكانت تبح
أصواتها وهي صامتة! فما كان لغنائها من جدوى، وهاجرت بقايا حماماتنا. وفي
اليوم نفسه ترددت أصداء أجنحة النسور في آذاننا من بعيد.. بعيد! فلم نكد
نسمع نعيق الغربان.. ويلك.. الغربان التي أرسلتها بين يديك، حتى تأكد لدينا
أنك تريد ما في حوزتنا. عرفنا أن صوت غصاب يمتزج بصوتك وأن دقات قلبك من
فيض دقات قلبه.. هذا إن لم تكن أنت قلبه؛ وعندئذ لفظتك مشاعرنا، وتلقتك
ثورة عيوننا. وقد كشفت لنا عن فرحك وكبريائك، وعن خضوعك وخنوعك، عن طموحك
وضيق أفقك في آن واحد، عن رغباتك وتناقضاتك.. وها هي ذي مذاكراتك تروي ذلك
بوضوح.. [/size][/size]
[size=12][size=12][size=12]
".. وشكل دخولي اليوم موكباً فريداً، لم يعرف التاريخ له
مثيلاً، فقد كانت ألواني منتشرة على امتداد نظرتي، ونظرتي واسعة جداً، كانت
تحمل يدي لتركزها في الأبعاد، وكم لأبعادي من قدم. كان وصولي فرحة طاغية..
عارمة. فقد تعالت على جانبي الطريق هتافات حادة، أتاحت لي أن أتذوق سحر
الجماهير، فرفعت يدي لألم أصواتها وقبلاتها، وكانت الحماية قد أحاطت بي
وكان ذلك وعداً صادقاً منها، حافظت عليه كما ينبغي لأمثالها. فقد اقترب
مني غصاب، وأدى لي التحية، ثم مد يديه لمصافحتي، وعلى فمه ابتسامة نيرة،
فشددت عليها، وخاطبني قائلاً: [/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12]
- قدوماً مباركاً، يا صاحب السعادة. [/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
وقويت الهتافات في تلك اللحظة، وزمجرت وتعالت لحظات،
فترددت أصداؤها فوق أبعادي. واحتفظت بيد مستقبلي بضع ثوان، لأن الفرحة
أربكتني، وكادت تجمد يدي، وتوقف لساني، وبعد حين شعرت بها تلتحم بيده،
وتستقطرها أمناً وسلطاناً. كانت يدانا تجسمان خطاً واحداً أفقياً.. واليد
الواحدة قمة. وأوشكت أن أضع شفتي فوق اليد التي رفعت يدي، ورسمت بها
أفقياً. فقد غمرتني موجة تأثر سمحة. ونظرت في عينيه الزرقاوين، وسمائي مع
زرقته، في شبهِ ولهٍ ، وقلت بصوت ممتن: [/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
- شكراً لك، يا سيدي غصاب، ألف شكر! [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
قلت له ذلك وأنا أعلم أن أي عدد لا يكفي لشكره على
الثروة، التي بسطها أمامي، ونصيبي من بعض نصيبه! وأذكر أني أغمضت عيني في
أثناء شكري له كمن يتعبد في خشوع! كانت تلك غمضة الفرحة الهنيئة. وسرت
بجانبه في خفة وحيوية، وكان يتباطأ ليوازي ظلي ظله، والخطى المتوازية شركة
بشكل ما! وكنت في الواقع لا أصدق أن رجليّ تطآن أرض الثروة.. فعلاً، لم أكن
أصدق ذلك. كان الصدق نفسه هبة! ورفعت يدي محييا الجماهير المتطلعة إلى
موكبي، تلوح بأعلامي، وتنثر الورد والزهر على طريقي. كان كل ذلك في الحقيقة
قد فاق جميع تصوراتي. وذلك ما جعلني أسأل سيدي غصاب مندهشاً ومبتهجاً في
وقت واحد: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
- أهذه الهتافات كلها من أجلي.. من أجلي أنا؟ [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
حول غصاب وجهه نحوي، ورفع حاجبيه، وأجابني بنبرة تجاوزت شموخي: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
- فلنقل أنها من أجلنا جميعاً.. إنها شركة بيننا أيضاً..
كالثروة! إلا أن نصيبك أنت من الهتافات أكثر بحكم القرابة.. وأنت بالنسبة
إلينا رأس الشجرة! [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
وضحك برقة، وأخذ يحرك يده برشاقة، والحق أن كل شيء فيه كان رشيقاً.. حتى صوته وكلماته ونظرة عينيه، ثم أضاف قائلاً: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
- الشجرة المثمرة طبعاً! [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
وضحكت بدوري، وأعجبني أن أستعمل أسلوبه، فسألته وأنا أنظر إلى وجهه: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
- هل يعني هذا أن فروعي أصبحت عقيمة؟! [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
وفكر غصاب قليلاً، ثم قال: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
- بعد حضورك أنت لم يعد أمرها مهماً بالنسبة إلينا! [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
وهنا أسرعت أقول: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
- هذا صحيح. أن أمرها الآن بيدي. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
وشعرت بصدري يمتلىء عزة وفخاراً و.. ثروة! وواصل ركبي
مسيرته عبر مدينتي، التي كانت فروعي تهتز على جانبيها أهازيج وزغردة، إلا
أن فرعاً بارداً أخذ يكتنف ظهري ببرودته فجأة، فقد لاحظت عيوناً متفرقة في
هذه الجهة وفي تلك.. وفي الطريق وفي النوافذ والسطوح، تنظر إلي غاضبة حانقة
رافضة.. رفضاً ما كنت أتوقعه، وتهيأ لي في الحين أنها ستنغص علي ما كنت
أحلم به دائماً من متع الموائد والمجالس. ورحت أتتبعها في رهبة، ويبدو أن
غصاب لاحظ علي ذلك، فقد قال لي مطمئناً: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
- لا[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]"... [size=12][size=12][size=12]. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
وإذا بالصحون تتحول إلى عيون كبيرة، العيون نفسها التي
أخافتك منذ الوهلة الأولى، فتحديتها وأخذت تنتقي ألذ الأطعمة، ولم تعرف
أنها حارسة أمينة إلا حين شعرت بخناجر تقطع أحشاءك. لقد كانت عيون الشيخ
وعيون شبابه. وأني لأذكر ملامحه، فقد كنت بجانبه يوم عبور تلك السحابة..
وشبابي شيخوخة فكر وتجربة ثورة! وفي يومك الأخير أمطرت السماء بغزارة!
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]