الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وبعد:
في الحديث:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قم يا بلال فأرحنا بالصلاة » .
بعد جهد جهيد ، وتعب كبير، يحتاج إلى الراحة، فيبحث عنها في الصلاة، أرحنا بالصلاة، إنه يجد فيها راحة، وطمأنينة، وسكوناً.
يدخل في الصلاة فينسى هموم الدنيا، وينشغل عن متاعبها، إنه يفرغ قلبه لمناجاة ربه، فلا يبقى فيه مكان لهموم الدنيا ومشاغلها.
إنه
يجد فيها راحة لأن قلبه قد امتلأ محبة لله وتعظيماً وإجلالاً، لذا فإنه
يحب مناجاته، ويجد فيها راحة للنفس، وقوة للقلب، وانشراحاً للصدر، وتفريجاً
للهم، وكشفاً للغم.
إن
المصلي واقف بين يدي الله جلّ وعلا، مناج لربه عزّ وجلّ، فإذا فرَّغ قلبه
لمناجاته، وأدى حق صلاته، وأكمل خشوعها، وقد امتلأ قلبه محبة لله وتعظيماً
وإجلالاً. فإنه إذا انصرف من صلاته، وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت
عنه، فوجد نشاطاً وراحة وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة
عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحاً في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن
ضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها.
فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم: « يا بلال أرحنا بالصلاة » . ولم يقل: أرحنا منها، وقال صلى الله عليه وسلم: « جُعلت قرة عيني في الصلاة » . فمن جعلت قرة عينه في الصلاة، كيف تقر عينه بدونها؟! وكيف يطيق الصبر عنها؟!
أمثلة من صلاة بعض السلف
هذه صورة تحكي كيف كان السلف- رضي الله تعالى عنهم ورحمهم- يصلون، وتُظهر جوانب من الراحة التي كانوا يجدونها في الصلاة.
فمنهم:
من كان يطيل صلاته إطالة عجيبة، تدل على أنه يجد فيها راحة بالغة، ولذة
وسروراً، وطمأنينة وسكوناً، يود معها انه بقي طول وقته في صلاة.
إن
إطالة الصلاة- إذا كان باختيار من غير إكراه، ولا سمعة فيها ولا رياء-
دليل على أن المصلي وجد فيها ابتهاجاً ونعيماً كبيراً، وإلا لم يطلها بهذه
الصفة، فإن الإنسان إذا ملَّ حالة وسئمها، عجل الانصراف عنها.
• قال بعضهم: ركع ابن الزبير يوماً فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
• قال علي بن الفضيل: رأيت الثوري ساجداً فطفت سبعة أسابيع- أي 49 شوطاً- قبل أن يرفع رأسه.
• قال ابن وهب: رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفه حتى نودي بالعشاء.
• قال عبدان الأهوازي: كنا لا نصلي خلف هدبة من طول صلاته، يسبح في الركوع والسجود نيفاً وثلاثين تسبيحة.
• قال أبو بكر بن عياش: رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً، فلو رأيته قلت: ميت. يعني من طول السجود.
• قال أبو قطن: ما رأيت شعبة ركع قطُّ إلا ظننت أنه نسي، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي.
• كان طلق بن حبيب لا يركع في صلاته إذا افتتح سورة (البقرة) حتى يبلغ (العنكبوت)، وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي.
ومنهم:
من إذا دخل في الصلاة خشع قلبه، وسكنت جوارحه، حتى يظن من رآه أنه جماد،
بل إن الطير قد يظن ذلك المصلي حائطاً، فيقع على ظهره لشدة سكونه، وهذا
السكون دليل على الراحة التي يجدها المصلي في صلاته، إذ لو لم يجد فيها
راحة لم يسكن هذا السكون، فإن المرء إذا كان على وضع لا راحة له فيه تكثر
حركته، والتفاته، وعبثه.
• قال ثابت البناني: كنت أمر بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام، كأنه خشبة منصوبة، لا يتحرك.
• قال يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره، تصعد وتنزل، ولا تراه إلا جذم حائط.
• قال الأعمش: كان إبراهيم إذا سجد كأنه حائط، ينزل على ظهره العصافير.
• قال بعضهم: كان عنبس بن عقبة يسجد حتى إن العصافير يقعن على ظهره وينزلن ما يحسبنه إلا جذم حائط.
• كان مسلم بن يسار إذا صلى كأنه وتد لا يميل هكذا ولا هكذا. وقيل: إذا صلى كأنه ثوب ملقى.
ومنهم:
من إذا دخل في الصلاة انشغل بها عما حوله،حتى لا يشعر بما يحدث عنده
وقريباً منه وإن كان عظيماً، ومتى عظمت محبة الشخص لأمر، فإنه ينشغل به حتى
عن نفسه، ألم ترَ كيف قطعن النسوة أيديهن لما رأين يوسف { فلماَّ رأَيْنَهُ أكْبرنه وقطَّعْن أيديَهُنََّّ } [يوسف:31] دهشن برؤيته عن أنفسهن فلم يشعرن بتقطيع أيديهن.
من
المصلين من يجد في صلاته لذة تشغله عما حوله، فمنهم من لا يشعر بوقوع شيء
أصلاً، ومنهم من يشعر بذلك لكنه لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، فكأنه لم
يشعر، لقوة حضوره في صلاته، وانصرافه لها، وعدم اهتمامه بما سوها وانشغاله
عنه.
•
ذكر بعضهم أن حجراً من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منها فمرت
بين لحية ابن الزبير وحلقه، وهو قائم يصلي، فما زال عن مقامه، ولا عرف ذلك
في صوته، ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، فكان إذا دخل في
الصلاة خرج من كل شيء إليها.
•
روي أن ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف تطوقت على بطن ابنه
هاشم، فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل، واجتمعوا على قتل الحية، فقتلوها
وسلم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت، ولا درى بما
جرى لابنه حتى سلّم.
•
قال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاة قط، ولقد
انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمها، وإنه لفي المسجد يصلي فما
التفت. ولما هُنىء بسلامته عجب وقال: ما شعرت.
• روي أنه وقع حريق في دار مسلم بن يسار وأطفىء، وهو يصلي، فلما ذكر ذلك له قال: ما شعرت.
ومنهم: من يصيبه في صلاته وجع شديد وألم، فلا يلتفت له، ويستمر في صلاته، قد أنسته لذة الصلاة شدة الوجع، حتى كأنه لا يحس به.
•
في إحدى الغزوات قام رجل من الأنصار يصلي ليلاً، فرماه أحد المشركين بسهم
فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثان فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم
ثالث فنزعه وركع وسجد وأتم صلاته. ثم أنْبَهَ صاحبه، فلما رأى ما به من
الدم قال: سبحان الله ! ألا أنبهتني أول ما رمى؟! قال: كنت في سورة أقرؤها
فلم أحب أن أقطعها.
فانظر
كيف صبر على تلك السهام، وتحمل ألم الجراح، ولم تطب نفسه أن يقطع قراءته
لتلك السورة حتى أتمها. فكم من لذة يجدها هذا الرجل في صلاته. وكم من راحة
وسرور، نسي معه تعب السفر، ومشقة الطريق، وهون عليه ضرب السهام.
فاحرص-
يا رعاك الله- على إكمال صلاتك، وإتمام خشوعها، حتى تجد فيها الراحة
والطمأنينة، فلن تكون الصلاة راحة لك، إلا إذا أقمتها كما أمرت، بطمأنينة
وخشوع وحضور قلب { وإنَّها لكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ } [البقرة:45] فالخاشع الصلاة خفيفة عليه، محببة إليه، أما غير الخاشع فالصلاة عليه ثقيلة، لا يجد فيها راحة ولا سروراً.
اللهم ارزقنا الخشوع في الصلاة، واجعلها قرة عين لنا، يا رب العالمين.
المصدر:دار القاسم