الأمن النفسي مطلب.. فكيف يتحقق؟
الحمد لله الذي أنشأ وبَرَا، وخلق الماء والثَّرى، وأبدع كل شيء ذَرَا، لا يغيب عن بصره دبيب النمل في الليل إذا سرى، ولا يعزب عن علمه ما عَنَّ وما طَرَا، اصطفى آدم ثم عفا عمَّا جرى، وابتعث نوحًا فبنى الفُلْك وسرى، ونجَّى الخليل من النار فصار حرها ثرى، أحمده سبحانه ما قُطِع نهارٌ بسيرٍ وليلٌ بسُرًى.
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي بالله جل جلاله أغراكَا؟
فاسجد لمولاك القدير فإنما لابد يوماً تنتهي دنياكَا
وتكون في يوم القيامة ماثلاً تُجزى بما قد قدمتهُ يداكَا |
وأصلي على رسوله محمد المبعوث في أمِّ القُرى، وعلى أبي بكر صاحبه في الدار والغار بلا مِرَا، وعلى عمر المحدَّث عن سرِّه فهو بنور الله يرى، وعلى عثمان زوج ابنته ما كان حديثًا يُفترى، وعلى عليٍّ بحر العلوم وأَسَد الشَّرى وعلى آله وأصحابه مصابيح الدجى وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله:
لقد حدث تطور حضاري غير مسبوق في العالم خلال العقود والسنوات الماضية في جميع مجالات الحياة، في الطب والهندسة والاتصالات والمواصلات وتقنية المعلومات، وفي الجانب المالي والاقتصادي، وفي الجانب التعليمي، وفي الجانب الصناعي والبنى التحتية وبناء المرافق الخدمية، وتم توفير جميع متطلبات الحياة بكل سهولة ويسر، وتم إنشاء الأجهزة الأمنية المتطورة والجيوش المتدربة، ووضعت الخطط، ورُصدت الميزانيات الكبيرة والهائلة من أموال الدول، وبُذلت الجهود المضنية؛ كل ذلك من أجل سعادة الإنسان وراحته..
وهذه الأمور وإن كانت واجبة على الدول تجاه مواطنيها وضرورية لحياة الإنسان؛ إلا أن الحضارة الحديثة لم توفر للإنسان الأمن النفسي، والشعور بالسعادة والطمأنينة، وراحة الضمير، ولم تعالج القلق والاضطرابات النفسية التي حوّلت الحياة إلى جحيم.. كل شيء متوفر.. طعام وعلاج، ومال، ووسائل ترفيه، وراتب شهري، وتعليم جيد، وحقوق مصانة، والتزام بالنفقة على الأولاد، ورعايتهم، وتعليمهم وتأمين مستقبلهم، ومع هذا كله دمَّر القلق النفسي حياتهم، وغزتهم الأمراض النفسية، وتفككت الأسر، وانتشرت الجرائم، وارتفعت معدلات الانتحار...
وأكثر بلاد العالم تحضراً في العصر الحديث هي الولايات المتحدة الأمريكية وتعلن نتائج شيوع القلق وانتشاره أرقاماً مفزعة من الجرائم حيث تحدث جريمة قتل كل 43 دقيقة واغتصاب كل 19 دقيقة وسرقة كل دقيقتين أما السطو على المنازل فجريمة كل 20 ثانية وعلى السيارات كل 48 دقيقة والرقم المفزع اختطاف رجل كل 20 ثانية.
إن كل جريمة وراء صاحبها قلق دفعه إلى ارتكابها كالخوف من الموت أو من الجوع أو الفقر أو من المرض أو غير ذلك. وكل جريمة تزيد من نسبة القلق إذ أن من يعيش في هذا المجتمع ويسمع هذه الإحصائيات قد يخشى أن يكون الضحية ليس في اليوم التالي بل في الدقيقة التالية فيظل قلقاً متوتراً بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
أصبح الانتحار مشكلة خطيرة على الصحة العامة في جميع أنحاء العالم؛ حيث يقضي في كل عام أكثر من 800 ألف شخص في مختلف مراحل العمر نحبهم منتحرين، وهو ما يعني حالة انتحار كل 40 ثانية تقريبًا، وتمثل كل حالة انتحار مأساة تؤثر على الأسر والمجتمعات والدول بأكملها بما تحدثه من آثار نفسية واجتماعية وإنسانية ..
إنه رقم كبير يفوق عدد الذين يلقون حتفهم من جراء الحروب والصراعات والكوارث وحوادث السيارات والمواصلات..
القرآن الكريم وأثره في تحقيق الأمن النفسي والسكينة والطمأنينة والسلام الروحي:
الحياة كنز ونفائس.. وأعظمها الإيمان بالله.. وطريقها منارة القرآن الكريم.. فالإيمان إشاعة الأمان... والأمان يبعث الأمل.. والأمل يبعث السكينة.. والسكينة نبع للسعادة حصادها أمن وهدوء نفسي. فلا سعادة لإنسان بلا سكينة نفس، ولا سكينة نفس بغير إيمان القلب. فإذا كانت السعادة شجرة منبتها النفس الإنسانية البشرية والقلب الإنساني، فإن الإيمان بالله وبالدار الآخرة هو دواؤها وغذاؤها وضيائها..
والقرآن الكريم... النبع الفياض الذي لا ينضب، هو نور هذا الإيمان والسلوك الأمثل الذي يجب على الإنسان أن يسلكه ويقتدي به.
ومما لا شك فيه أن للقرآن الكريم أثر عظيم في تحقيق الأمن النفسي، والطمأنينة القلبية والسكينة. والسكينة روح من الله ونور يسكن إليه الخائف، ويطمئن عنده القلق.
هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده. والقرآن فيه من عطاء الله ما تحبه النفس البشرية ويستميلها، إنه يخاطب ملكات خفية في النفس لا نعرفها نحن.. ولكن يعرفها الله سبحانه وتعالى.. وهذه الملكات تنفعل حينما يقرأ الإنسان القرآن.. ولذلك حرص الكفار على ألا يسمع أحد القرآن، لأن كل من يسمع القرآن سيجد له حلاوة وتأثير قد يجذبه إلى الإيمان.
لا شك أن في القرآن الكريم طاقة روحية هائلة ذات تأثير بالغ الشأن في نفس الإنسان، فهو يهز وجدانه، ويرهف أحاسيسه ومشاعره، ويصقل روحه، ويوقظ إدراكه وتفكيره، ويجلي بصيرته، فإذا بالإنسان بعد أن يتعرض لتأثير القرآن يصبح إنساناً جديداً كأنه خلق خلقاً جديداً. إن كل من يقرأ تاريخ الإسلام ويتتبع مراحل الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى، ويرى كيف كانت تتغير شخصيات الأفراد الذين كانوا يتعلمون الإسلام في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، يستطيع أن يدرك إدراكاً واضحاً مدى التأثير العظيم الذي أحدثه القرآن الكريم ودعوة الإسلام في نفوسهم.
وتمدنا دراستنا لتاريخ الأديان، وخاصة تاريخ الدين الإسلامي، بأدلة عن نجاح الإيمان بالله في شفاء النفس من أمراضها، وتحقيق الشعور بالأمن والطمأنينة، والوقاية من الشعور بالقلق وما قد ينشأ من أمراض نفسية.
وأن الإيمان بالله إذا ما بث في نفس الإنسان منذ الصغر فإنه يكسب مناعة ووقاية من الإصابة بالأمراض النفسية.
وقد بين القرآن الكريم ما يحدثه الإيمان من أمن وطمأنينة في نفس المؤمن بقول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11].
وتتحقق للمؤمن سكينة النفس وأمنها وطمأنينتها، لأن إيمانه الصادق بالله يمده بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته، فالحب هو الجوهر الوحيد الذي يعطينا الأمان والاستقرار والسلام والإيمان، وحده هو ينبوع الحب الصافي. والمؤمن بعقيدة الإسلام نفذ إلى سر الوجود فأحب الله واهب الحياة، أحبه حباً عظيماًن وأحب الكتاب الذي أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وأحب النبي الذي أرسله رحمة للعالمين، وأحب كل إنسان من فعل الخير والصلاح للذين يحبهم ويحبونه.
إن ذروة الحب عند الإنسان وأكثره سموا وصفاء وروحانية هو حبه لله سبحانه وتعالى وشوقه الشديد إلى التقرب منه، لا في صلواته وتسبيحاته ودعواته فقط، ولكن في كل عمل يقوم به، وكل سلوك يصدر منه، إذ يكون التوجه في كل أفعاله وتصرفاته إلى الله سبحانه راجياً من تعالى القبول والرضوان: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165].
ومن أجل تحقيق الأمن والسكينة للنفس الإنسانية أعطى الله سبحان وتعالى الحرية في الاعتقاد الديني ودعا إلى الألفة والمحبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويرتبط الإيمان بالأمن والطمأنينة والبركة والهداية: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96].
فالإيمان هو الذي يقودنا إلى الأمان والطمأنينة والسعادة. وأن يصبح الإنسان مهتد في كل لحظة من حياته. ولكن كيف نسلح أنفسنا بالأمن النفسي، حتى تصبح نفوسنا قوية بالأمن مطمئنة تستطيع أن تواجه صعاب الحياة ومشكلاتها؟
لقد عُنـي القرآن الكريم بالنفس الإنسانية عناية شاملة.. عناية تمنح
الإنسان معرفة صحيحة عن النفس وقاية وعلاجاً دون أن ينال ذلك
من وحدة الكيان الإنساني، وهذا وجه الإعجاز والروعة في عناية
فكم من مسلم إذا تكالبت عليه الهموم توضأ وتطهر ثم انتحى زاوية في بيته وأخذ المصحف يتلوه ويتلو فتزاح عنه الهموم وتنجلي فيقوم وكأنما نشط من عقال.
وكم من مسلم اضطجع على جنبه الأيمن عند نومه وقرأ على نفسه بضع آيات كأنما يمد بها طريقا إلى ربه ويبتغي بها رضاه فنام قرير العين آمناً بحفظ الله ورعايته.
وكم من مسلم أصابته الوحشة واستولى عليه الخوف فآنس نفسه بآيات فوجدها نعم الأنيس، أزالت وحشته، وأذهبت خوفه.
وكم من مسلم اضطرب وارتعد فتلا آيات فأنزل الله عليه سكينته وآمن روعته.
وكم من مسلم التمس الشيطان إلى قلبه سبيلاً وألقى إليه بالشبهات والشكوك فما تكاد تنقدح شرارتها حتى يدعوه داعي الإيمان إلى ترتيل آيات من القرآن فتقضي على كل شبهة وتقطع كل شك فيعود قلبه مطمئناً.
وكم من مسلم ناله الفقر ومسه الجوع فوجد في القرآن غناه و في تلاوته غذاءه.
وكم من مسلم كاد أن يطغيه غناه وتذهب به بهجته فأنقذه الله بالقرآن يتلوه، فانكشف له الستار، و تذكر نعمه ربه فابتغى ما عند الله بما عنده.
فإن جرب أحد شيئاً من هذا فوجده فليحمد الله فإنها نعمة عظمى أنعمها الله عليه، و إن جرب أحد مثل هذا فاستعصى عليه أو لم يجد فلينظر في حاله و ليفتش عن العلة