وهذه بعض من قصائدة
قصيدة (وداع وطن )
مــحــا البــيــنُ ما أبقتْ عيون المها مني
فـشِـــــــــبتُ ولم أقضِ اللُّبانة من سني
عـــناءٌ ، ويــــأسٌ ، واشــــتيــــاقٌ وغــربةٌ
ألا ، شــدَّ ما ألقـــــاه في الدهر من غبنِ
فإن أكُ فــــارقـــــــتُ الــــديار فـــلي بـها
فُــــــؤادٌ أضـــــــلتْهُ عــــيـــون المها مِني
بعــــثــــتُ به يــــوم النـــوى إثـــــرَ لَحْظَةٍ
فأوقــــعــــه المِقدارُ في شَـرَكِ الحُــسنِ
فـــهل من فتى في الدهــــر يجمع بـينـنا
فـــلـــيــس كِلانا عــن أخــيه بمـسـتغــنِ
ولــما وقـــفــــنـا لِلــوَدَاع ، وأســـبَــلَـــتْ
مـــــدامـــعنا فـــــوق التـــرائب كالمـــزن
أهـــبتُ بـــــــصبري أن يعودَ ، فــعـــزنـي
وناديت حــلــمــي أن يـثــوب فــلــم يُغـنِ
ولمْ تَــمـْــضِ إلا خَــطْــرَةٌ ، ثــــم أقلــعـت
بنا عـــن شطوط الحـــي أجـنِحةُ السُّفْـنِ
فـكم مُـــــهجةٍ من زَفْرَةِ الوجدِ في لــظى
وكم مُقـْــــلَةٍ مِنْ غــزرة الدمــع في دَجْنِ
ومـــا كــــنتُ جــــربتُ النـــوى قبل هـذه
فـــلما دهــــتني كِدتُ أقــضي من الحزن
ولكـــنني راجـــعــــتُ حِــــلْمـِي ، وردني
إلى الحَــــزْمِ رأيٌ لا يــحـــومُ عــلـى أَفْنِ
ولولا بُـــنــيــاتٌ وشِـــيـــبٌ عــــــــواطـــلٌ
لــمــا قَــرَعَـتْ نفـسي على فائِتٍ سِني
فيــا قــلــبُ صــبـراً إن جـــــزِعتَ ، فربمـا
جَـــرَتْ سُـــنُــحاً طَيْرُ الحــــــوادثِ باليُمْنِ
فــقــد تُـــــورِقُ الأغـــصــان بـعد ذبـــولـها
ويــبــدو ضـــياء البــدر فـي ظــلمةِ الوَهنِ
وأيُ حـــســـــــــامٍ لم تُصِـــبهُ كـــهـــامُةٌ
ولهْــــذَمُ رُمْــــحٍ لا يُــــفَــــلُ مـــن الطـعنِ
ومن شــــــــاغــــــب الأيامَ لان مَــرِيـــرُهُ
وأســــلــمــهُ طولُ المِـــراسِ إلى الوَهْـنِ
وما المــــــــرءُ في دنـــيـاه إلا كـــســالِكٍ
مناهِـــــجَ لا تخـــلو من الســهل والحَــزْنِ
فإن تـــكـــــن الــدنيا تـــولــــت بــخـيـرها
فأهــــون بدنيا لا تــــدوم عــــــــلـى فَـنِّ!
تحــمــلــتُ خـــوفُ المَــنِّ كـــلَّ رَزِيــئـــةٍ
وحـــمـــلُ رزيا الدهــــر أحــلـى من المنِّ
وعــــاشـــــرتُ أخــداناً ، فلما بَلَــــــوتُهُمْ
تـــمـــنــيــتُ أن أبقى وحـــــيداً بلا خِـدنِ
إذا عـــــرف الــمـــــرءُ القلوبَ وما انطـوتْ
عـــليه مـن البغضاءِ - عاش على ضِــغْــنِ
يــــرى بــــصــــري مــــن لا أودُ لِـــقــاءَهُ
وتــسمـــعُ أذني مــا تــعــافُ مِن اللحــنِ
وكــيــف مُــقــامي بين أرضٍ أرى بـهــــا
من الظلم ما أخنى على الدار والسَّكْـــنِ
فسَمْعُ أنين الجَوْرِ قد شـــــاك مسمعي
ورؤيـــةُ وجـــه الغـــدر حــل عُرا جَفــــني
وصــعــب عــــلى ذي اللُّبِ رئــمـانُ ذِلةٍ
يَظَلُ بها في قــــومـــــــه واهي المـــتـنِ
إذا المــــرُ لم يــــرمِ الهـــــناةَ بــمــثلـها
تــخــطى إليه الخـوف من جـانب الأمـــن
وكـن رجلاً ، إن سيمَ خَــــسْفاُ رمـتْ به
حَــــمِـــيـــتُــهُ بــيـــن الصــــوارمِ واللُّــدنِ
فلا خـــيْرَ في الــدنيا إذا المرءُ لم يعـشْ
مـــهيباُ ، تـــراه العينُ كـــالنار فـي دغْــنِ
قصيدة (الهجران)
البارودي
رُدواعَــــــليَّ الصِّبَا من عصري الخالي
وهـــل يعـــود سَـــــوَادُ اللِّمَّةِ البالي؟
*
ماضٍ من العـــيــــش ما لاحــــت مخايِلُهُ
فـي صـفــحة الفـــكـر إلا هاج بَلْبَالي؟
*
سَلَتْ قــلـوبٌ ، فَــقَــرتْ في مـضاجِعِها
بـعـد الحــنين وقلبي ليس بالسالي
*
لَمْ يَــدْرِ مــن بات مــسـروراً بِــــلَذتِهِ
أني بــنــار الأســى مــن هــجـره صَالي
*
يا غــاضــبـيـن عـلـيـنا ! هل إلى عِدةٍ
بالــوصـل يَــوْمٌ أُنـاغي فــيه إقبالي
*
غــبتم ، فأظلم يومي بعد فُرقَتِكم
وســــاء صُـــنــعُ اللـيالي بعد إجمالي
*
قد كــنـت أحسبُني مِنكم على ثِقَةٍ
حــتــى مُــنـِيتُ بمــا لم يَجْـرِ في بالي
*
لم أجــنِ في الحُــبِّ ذنـبـاً أستحق به
عَـــتْــبــاً ، ولـكــنـها تحريفُ أقوالي
*
ومــــن أطــاعَ رواةَ السُّــــوءِ - نَفَّرَهُ
عــــن الصــديق سمـاعُ القيل والقالِ
*
أدهــى المـصائــب غَــدْرٌ قــبــــلهُ ثِقَةٌ
وأقـــبـــح الظُّــــلم صـــــدٌّ بعد إقبالِ
قصيدة (اشتياق)
البارودي
هَـلْ مِنْ طَبِيبٍ لِدَاءِ الْحُبِّ أو رَاقِي ؟
يَـشْـفِـي عَـلِيلاً أخا حُزْنٍ وإيراقِ
قَـدْ كان أَبْقَى الهوى مِنْ مُهجَتي رَمَقًا
حَتَّى جرى البَيْنُ ، فاستولى على الباقي
حُـزْنٌ بَرَانِي ، وأشواقٌ رَعَتْ كبدي
يـا ويـحَ نـفسي مِنْ حُزْنٍ وأشْوَاقِ
أُكَـلِّـفُ الـنَفْسَ صَبْراً وهي جَازِعَةٌ
والـصـبرُ في الحُبِّ أعيا كُلَّ مُشتاقِ
لافـي (( سرنديبَ )) لِي خِلٌ ألُوذُ بِهِ
وَلَا أَنِـيـسٌ سِـوى هَمي وإطراقِي
أبِـيـتُ أرعـى نـجوم الليلِ مُرْتَفِقًا
فـي قُـنَّـةٍ عَـزَّ مَرْقاها على الراقي
تَـقَـلَّدَتْ من جُمانِ الشُهبِ مِنْطَقةً
مَـعـقُـودةً بِـوِشَـاحٍ غَيرِ مِقْلاقِ
كـأن نَـجْـمَ الثريا وهو مُضْطَرِبٌ
دُونَ الـهِـلالِ سِـراجٌ لاحَ في طاقِ
يا (( روضة النيلِ )) ! لا مَسَّتْكِ بَائِقَةٌ
ولا عَـدَتْـكِ سَـمَـاءٌ ذَاتُ أَغْدَاقِ
ولا بَـرِحْـتِ مِـنً الأوراقِ في حُلَلٍ
مِـنْ سُـنْـدُسٍ عَبْقَرِيِّ الوَشْيِ بَرَّاقِ
يـا حـبـذا نَـسَمٌ مِنْ جَوِّهَا عَبِقٌ
يَـسـرِي عـلى جَدْوَلٍ بالماءِ دَقَّاقِ
بـل حَـبَّـذا دَوْحَةٌ تَدْعُو الهدِيلَ بِها
عِـنـدَ الـصَّـبَاحِ قَمَارِيٌ بأطواقِ
مَرْعى جِيادي ، ومَأوَى جِيرتي ، وحِمى
قَـومـي ، وَمَـنْـبِتُ آدابي وأعراقي
أصـبـو إلـيها على بُعْدٍ ، ويُعجبني
أنـي أعِـيـشُ بِـها في ثَوْبِ إملاقِ
وكـيـفَ أنسى دياراً قَدْ تَرَكْتُ بِها
أهـلاً كِـراماً لَهُمْ وُدِي وإشفاقي ؟
إذا تَـذَكَّـرْتُ أيـامـاً بِهِم سَلَفَتْ
تَـحَـدَّرَتْ بِـغُـرُوبِ الدمع آماقي
فَـيَـا بَـرِيدَ الصَّبا بَلِّغْ ذَوِي رَحِمِي
أنـي مُـقـيـمٌ عَلَى عَهْدي ومِيثاقي
وإن مَرَرْتَ عَلَى (( المِقْياسِ )) فَاهدِ لَهُ
مِـنـي تـحـيـةَ نَفسٍ ذاتِ أعلاقِ
وَأَنـتَ يـا طـائـراً يبكي على فَنَنٍ
نـفـسي فِدَاؤُكَ مِنْ سَاقٍ على سَاقِ
أَذْكَـرْتَـني مَا مَضى وَالشَمْلُ مُجتَمِعٌ
بِـمِصْرً والحربُ لم تنهض على ساقِ
أيـامَ أسـحـبُ أذيال الصِبا مَرِحاً
فِـي فِـتْـيـةٍ لِـطَرِيقِ الخير سُبَّاقِ
فَـيَـالَـهـا ذُكْرَةً ! شَبَّ الغَرَامُ بِها
نَـاراً سَـرَتْ بَـيْنَ أرداني وأَطْوَاقي
عَـصْرٌ تَوَلَّى ، وأبْقَى فِي الفُؤَادِ هَوى
يَـكَـادُ يَـشْـمَلُ أحشائي بإحراقِ
وَالـمـرْءُ طَـوْعُ الـليالي في تَصَرُّفِها
لا يـمـلـكُ الأمرَ مِنْ نُجْحٍ وإخفاقِ
عَـلَـيَّ شَـيْمُ الغَوَادي كلما بَرَقَتْ
وَمَـا عَـلَـيَّ إذا ضَـنَّـتْ بِرقْراقِ
فـلا يَـعِـبْني حَسُودٌ أنْ جَرى قَدَرٌ
فَـلَـيْـسَ لـي غَيْرُ ما يقضيهِ خَلَّاقي
أسـلـمْتُ نفسي لمولًى لا يَخِيبُ لهُ
راجٍ عَـلَى الدَهْرِ ، والمولى هُو الواقي
وَهَـوَّنَ الـخـطبَ عِندِي أنني رَجُلٌ
لاقٍ مِـنَ الـدهرِ مَا كُلُّ امرِئٍ لاقي
يـا قَـلْـبُ صَـبْراً جمِيلاً ، إنهُ قَدَرٌ
يـجـري عـلى المرءِ مِنْ أَسْرٍ وإطلاقِ
لابُـدَّ لِـلـضيقِ بَعْدَ اليأسِ مِنْ فَرَجٍ
وَكُـلُّ داجِـيَـةٍ يـومـاً لإشـراقِ