عمر
بن عبد العزيز.. وسياسته
سياسته الداخلية.. تعتبر سياسة عمر بن عبد العزيز الداخلية من أهم
الجوانب في خلافته، فقد كان -رحمه الله- إداريًّا ممتازًا، ولا عجب في ذلك
فقد عركته تجربة الإدارة منذ أن كان واليًا على خناصرة والمدينة، ثم تكاملت
عناصر التجربة بعد أن أصبح من أقرب الناس إلى سليمان بن عبد الملك، يرقب
الحوادث عن قرب ويتمرس على شئون الدولة وتسيير دفة الحكم فيها، وما أن تولى
مقاليد الخلافة حتى ذهب يبذل كل جهده، ويُفني ما تبقى من عمره في إصلاح
أمور الدولة، واستقرار الأمن والرخاء في ربوعها، وتحقيق العدالة والكفاية
في كل أرجائها. وقد اتخذ لذلك منهجًا كان من أبرز معالمه الحرص
على مال المسلمين، والمحافظة على الوقت والجهد، وسرعة التصرف في الأمور،
وحسن اختيار القضاة والولاة والموظفين، وإزالة آثار كل عمل لا يساير روح
الإسلام، وتحقيق التوازن بين الناس، ومجادلة الخارجين على الدولة بالحسنى
لإقناعهم وردهم إلى حظيرة الجماعة، كما كان الطابع لهذا المنهج هو العدل
والإنصاف والرحمة والإحسان. كان عمر بن عبد العزيز يعرف قيمة
المال والوقت، وهما من الأشياء التي يبددها المسلمون الآن فيما لا يفيد،
ويعانون من جراء ذلك ما لا يخفى على أحد من التأخر والتخلف، ولكن عمر
الفقيه كان يعرف أن صيانة المال واحترام الوقت من أهم ما يحرص عليه
الإسلام، لترقي الأمة الإسلامية، فانظر ماذا قال عمر حين جاءه كتاب من أبي
بكر بن حزم، والي المدينة يطلب ورقًا يكتب فيه أمور الولاية، فقد كان رده
عليه: "أَدِقَّ قلمك وقارِب بين أسطرك؛ فإني أكره أن أُخرج للمسلمين ما لا
ينتنفعون به". كما كتب إليه أيضًا: "أما بعد، فإنك كتبت إلى
سليمان كتبًا لم ينظر فيها حتى قبض -رحمه الله- وقد بليت بجوابك، كتبت إلى
سليمان تذكر أنه يقطع لعمال المدينة من بيت مال المسلمين ثمن شمع كانوا
يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء، وصلاة الفجر، وتذكر أنه قد نفد
الذي كان يستضاء به، وتسأل أن يقطع لك من ثمنه بمثل ما كان للعمال، وقد
عهدتك وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوحلة بغير سراج،
ولَعَمْرِي لأنت يومئذٍ خيرٌ منك اليوم، والسلام". فانظر إلى
مدى بلغ حرصه على المال والوقت والجهد، وقد تبدو هذه الأمثلة بسيطة لبعض
الناس، ولكنها عظيمة الدلالة على فهم الحكم المسلم لقيمة المال والوقت،
وهما من مقومات الحياة. ومن حرص عمر على الوقت أنه كان لا يعرف
تأخير عمل اليوم إلى الغد، فيومه كله عمل، وعندما لاحظ عليه بعض أهله
مظاهر الإرهاق من كثرة العمل تقدم إليه قائلًا: "يا أمير المؤمنين، لو ركبت
-في نزهة- فَتَرَوَّحْتَ! أجابهم: فمن يجزي عني عمل ذلك اليوم؟ قال: تجزيه
من الغد. أجاب عمر: فَدَحَني عمل اليوم، فكيف إذا اجتمع عليَّ عملُ
يومين". كما كان يعمل على سرعة تصريف الأمور، وكان يضيق
بالعامل الذي لا يحسن التصرف أو ما نسميه اليوم بالبيروقراطي، الذي يحب أن
يراجع رؤساءه في كل كبيرة وصغيرة، فقد كتب إلى عامله على المدينة: " أن
قَسِّمْ في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار؛ فكتب إليه: إن عليًّا قد
وُلِدَ له في عدة قبائل من قريش، ففي أي ولده؟ فكتب إليه: لو كتبت إليك في
شاة تذبحها لكتبت إليَّ، أسوداء أم بيضاء؟ إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد
علي من فاطمة -رضوان الله عليهم- عشرة آلاف دينار فطالما تخطتهم حقوقهم". وكان
عمر بن عبد العزيز غير راضٍ عن الأسلوب الذي يدير به بعض عمال بني أمية
أمور الدولة، أو لا يتفق أسلوبهم الإداري مع نهج عمر، مثل يزيد بن المهلب
وآله، الذين كان عمر يقول عنهم: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم، ولكن هؤلاء
كانوا رجال سليمان بن عبد الملك فأبقى عليهم، فلما آلتِ الخلافة إلى عمر
قرر أن يقصي كل عامل لا يرتاح إليه؛ فعزل يزيد بن المهلب وأمثاله، وانتقى
أفضل وأصلح الرجال وولاهم الأعمال. ويبدو جليًّا من استعراض أسماء الولاة
والقضاة، وسائر الموظفين الذين اختارهم عمر بن عبد العزيز، حرصه على
الاعتماد على أكثر العناصر كفاءة وعلمًا وإيمانًا وقبولًا لدى جماهير
المسلمين. ولم يكن عمر يكتفي بحسن الاختيار بعد الابتلاء بل
كان يتابع عماله ويرسم لهم المنهج الذي ينبغي عليهم أن يطبقوه ليقيموا
العدل بين الناس؛ فقد كتب إلى عامله على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن
بن زيد بن الخطاب: "سلام عليك، أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة
وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة استنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين
العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك فإنه لا قليل من الإثم،
ولا تحمل خرابًا على عامر، ولا عامرًا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما
أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين
لأهل الأرض، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري، فإني
قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صَلْب، حتى تراجعني
فيه، وانظر من أراد أن يحج من الذرية؛ فعجِّل له مائة يحج به، والسلام". هكذا
عمل عمر على إزالة كل أثر من الآثار التي تراكمت من قبل ولم يكن راضيًا
عنها، أو كان يرى أنها تنافي روح الإسلام، ولما كان هو نفسه أميرًا من
أمراء بني أمية فقد آلت إليه أموال وهدايا كان يرى أنه لم يكن يستحقها،
فبدأ بنفسه ورد ما أخذه إلى بيت المال، ثم ثنى بأقربائه واستقصى أموالهم
فما رأى أنه أُخِذَ به بدون وجه حق، أخذه ورده إلى بيت المال، ولم يقبل في
ذلك مناقشة أو شفاعة من أحد، فقد رفض شفاعة عمته فاطمة عندما وَسَّطُوها
عنده لتشفع لهم. ومن الآثار السيئة التي وجدها عمر وحرص على
إزالتها بكل عزم وتصميم ظاهرة أخذ الجزية من الذين أسلموا حديثًا، فقد كان
بعض عمال بني أمية لما أعوزهم المال بسبب الحروب والثورات، أبقوا الجزية
على من كانوا يدخلون في الإسلام من أبناء البلاد المفتوحة، وزعموا أن إسلام
هؤلاء لم يكن صادقًا، وأن إعفاءهم من الجزية قد أضرَّ ببيت المال،
وابتدعوا بدعة اختبار من أسلموا بالختان، ولكن عمر حذرهم من ذلك، فقد كتب
إلى الجراح بن عبد الله الحكمي -والي خراسان-: "انظر من صلَّى قبلك إلى
القبلة فضع عنه الجزية"؛ فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس
قد سارعوا إلى الإسلام نفورًا من الجزية، فامتحنهم بالختان، فكتب الجراح
بذلك إلى عمر، فكتب عمر إليه: إن الله بعث محمدًاهاديًا ولم يبعثه خاتنًا،
وعزل الجراح عن خراسان وولى عبد الرحمن بن نعيم القشيري، ثم ولى على الخراج
عقبة بن زرعة الطائي، وكتب إليه: "إن للسلطان أركانًا لا يثبت إلا بها،
فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب المال ركن، والركن الرابع أنا، وليس ثغر
من الثغور المسلمين أهم إليَّ، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان؛ فاستوعب
الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يك كفافًا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإذًا فاكتب
إليَّ حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم". فالمال
مهم، ولكن العدل أهم عند الخليفة عمر لأن المال وجبايته عنده وسيلة، وليست
غاية. وقد يكون من الصعب استقصاء إصلاحات عمر بن عبد العزيز المالية
والإدارية، ولكن يكفي أن نقول على وجه الإجمال: إن سياسته المالية قضت على
الفقر، وحققت التوازن بين الناس، حتى لم يعد هناك فقير يحتاج إلى الصدقة،
فيروي الذهبي عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمر بن أسيد قال: "والله ما مات عمر
بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث
ترون فما يبرح حتى يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس". ولما
كان عمر يعتبر نفسه مسئولًا عن الأمة كلها، فليس هناك أحد أولى به من أحد،
وفي ضوء هذا التصور نظر إلى الخوارج، الذين ناصبوا الدولة الأموية العداء
منذ قيامها، ولم يكد صراعهم معها ينقطع، وأدرك عمر أن هؤلاء الناس قد
يكونون طلاب آخرة، ولكنهم قد أخطأوا الطريق إليها؛ فجاهدوا في غير ميدانها؛
وبددوا طاقاتهم وطاقات الدولة في حروب داخلية، لا طائل من ورائها بل كانت
لها آثارها السيئة عليهم وعلى الدولة، فرأى من واجبه أن يبصرهم بخطأ موقفم
فدعاهم إلى محاورته، فاستجابوا، وأرسل له زعيمهم شوذب الخارجي اثنين من
أتباعه، ليحاوراه، وبدأ عمر الحوار قال لهم: "إني قد علمت أنكم لم تخرجوا
مخرجكم هذا لدنيا ولكنكم أردتم الآخرة وأخطأتم طريقها، وإني سائلكم عن أمور
فبالله لتصدقنني عنها". وبدأ يسألهم وهم يجيبون، وظهرت حجته عليهم في جميع
القضايا التي أثاروها إلا مسألة واحدة، وجد عمر نفسه عاجزًا عن تبريره،
وهي ولاية العهد ليزيد بن عبد الملك، فطلب منهم أن ينظروه ليفكر في الأمر،
ورضي الرجلان بذلك، وقال له أحدهما: "ما سمعت كاليوم حُجَّةً أبين وأقرب
مأخذًا من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق، وأنا بريء ممن برئ منك. وأقام
عند عمر ورفض العودة إلى الخوارج، أما الآخر فسأله عمر: فأنت ما تقول؟
قال: ما أحسنَ ما قلتَ، وأبينَ ما وصفتَ، ولكني لا أفتات على المسلمين بأمر
حتى أعرض قولك عليهم فأنظر ما حُجَّتُهم". ولكن بقيت هذه
المسألة معلقة دون حلٍّ؛ لأن عمر لم يكن قادرًا على تنحية يزيد من ولاية
العهد؛ خوفًا من الفتنة في بني أمية، كما أن الأيام لم تمهله حتى نرى ما
كان سوف يضع فقد مات رحمه الله بعد ذلك بقليل، لكن ما يهمنا الآن هو
الأسلوب الجديد الذي واجه به عمر الخوارج، والذي كان من أثره فيهم أنهم لم
يثوروا عليه، وهذا يبين أن هؤلاء القوم كانوا على غير هدى من الله يحتاجون
إلى علاج، ولعلهم بعد ما لحق بهم من ضربات كانوا على استعداد للاندماج في
الأمة لو وجدوا بعد عمر من يواصل أسلوبه معهم ولكن أني للخلافة مثل عمر.
سياسته
الخارجية:كما كان لعمر بن عبد العزيز وقفته في
السياسة الداخلية، ليعيد ما اعوج من الأمور إلى نصابه، ويحاول إصلاح ما رآه
انحرافًا عن الجادة سواء في الناحية الإدارية أو المالية أو غيرها، كذلك
كانت له وقفة مماثلة في السياسة الخارجية فقد رأى أن مساحة الدولة قد
اتسعت، وأن أطرافها قد ترامت وتباعدت، ولعل كثيرًا من المشاكل والأخطاء
التي وقع فيها بعض الولاة قد نشأت عن هذا الاتساع الكبير في مساحة الدولة،
فكل إقليم كان يضيف إلى مشاكل الدولة عبئًا جديدًا، فرأى أنه من الحكمة
إيقاف الفتوحات، أو الحد منها على الأقل؛ لأن التوقف عند حدود ما فتح من
بلاد وأقاليم، والعمل على حَلِّ مشاكلها، وعرض الإسلام عليها بأسلوب حكيم
دقيق، وقدوة حسنة، سوف يكون أجدى من المضي في الفتوحات، بل ربما لا تكون
هناك حاجة بعد ذلك إلى فتح جديد؛ لأن الناس سيقبلون على الإسلام من تلقاء
أنفسهم، لأنهم سيجدون فيه كل ما يرضيهم، روحيًّا وماديًّا، وما يحقق
سعادتهم في الدنيا والآخرة. وقد تحقق ما تصوره في ذلك وزادت
حركة الإقبال على الإسلام في البلاد المفتوحة في عهده زيادة كبيرة وأخذ عمر
في إرسال الدعاة من خِيرَة العلماء ليدعوا الناس إلى الإسلام، بدلًا من
إرسال الجيوش للفتح، كما بدأ يرسل الكتب إلى الملوك والأمراء المعاصرين
يدعوهم إلى الإسلام فأرسل إلى أمراء ما وراء النهر، وإلى ملوك السند،
يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم على بلادهم ويكون لهم ما
للمسلمين وعليهم ما عليهم، فلما وصلتهم رسائله وكانت قد بلغتهم سيرته
وعدله، فقبلوا وأسلموا، وتسموا بأسماء عربية. كما أرسل إلى
إمبراطور الدولة البيزنطية يدعوه إلى الإسلام، بعد أن خشي على المسلمين؛
فأمر بإعادة الجيش الذي كان يحاصر القسطنطينية دون جدوى منذ عهد سليمان بن
عبد الملك. ولقد تمتَّع الخليفة عمر بن عبد العزيز بسمعة طيبة،
تجاوزت حدود الدولة الإسلامية، فتروي المصادر التاريخية أنه حينما وصل
الوفد الذين أرسلهم عمر إلى إمبراطور الروم لدعوته إلى الإسلام جاءت
الأخبار إلى الإمبراطور من عيونه بوفاة عمر، فأرسل يستدعي رئيس الوفد، فلما
مَثُلَ بين يديه سأله الإمبراطور: "أتدري لم بعثت إليك؟ قال: لا. فقال: إن
صاحب مسلحتي كتب إليَّ أن الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز مات، قال: فبكيت
واشتد بكائي، وارتفع صوتي، فقال لي: ما يبكيك؟ ألنفسِك تبكي أم له أم لأهل
دينك؟ فقال: لكلٍّ أبكي. قال: فابكِ لنفسك، ولأهل دينك، أما عمر فلا تبكِ
عليه، فإن الله لم يكن ليجمع عليه خوف الدنيا وخوف الآخرة. ثم قال: ما عجبت
لهذا الراهب الذي تعبَّدَ في صومعته وترك الدنيا، ولكن عجبت لمن أتته
الدنيا منقادة، حتى صارت في يده ثم تخلى عنها". ثم يضيف
الإمبراطور: "ولقد بلغني من بِرِّه وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد عيسى
يحيي الموتى، لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنًا
وظاهرًا، فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدًا، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة
مولاه".
وفاة عمر بن عبد العزيز:لم
تطل حياة عمر بن عبد العزيز طويلًا فقد اختطفته يد المَنُون ولم يتجاوز
الأربعين من عمره، ويبدو أن انهماكه في أمور المسلمين ومتابعة السهر والعمل
في شئون الدولة، وعدم اهتمامه بأمر طعامه وشرابه، قد أثَّر على صحته فلم
يعد جسمه يقوى على المقاومة والاحتمال. وأما ما يرويه بعض
المؤرخين من أن بعض بني أمية دَسَّ له السم فهذا أمر لم يقمْ عليه دليل،
ويبدو أن هذا لم يكن سوى شائعة من تلك الشائعات التي رَوَّجَ لها أعداء بني
أمية، فقد اتهموا معاوية t بأنه دس السم للحسن بن علي وللأشتر النخعي،
ولعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأن سليمان بن عبد الملك صنع هذا أيضًا مع
أبي هاشم بن محمد بن الحنفية. على أية حال توفي عمر بن عبد
العزيز في شهر رجب سنة 101هـ، وكانت وفاته بدير سمعان من أعمال حمص، وتولى
الخلافة بعده ابن عمه يزيد بن عبد الملك.
الكاتب: د.
راغب السرجاني المصدر: موقع قصة الإسلام