عرف الأدب
أطباء كثيرون، جمعوا بين العلم والموهبة، ومن أشهرهم الشاعر الكبير الراحل
ابراهيم ناجي صاحب قصيدة "الأطلال"، والأديب الرائع يوسف ادريس، وصاحب
عمارة يعقوبيان، علاء الأسواني.
لكن قليل من الأطباء من جمعوا بين القدرة والمكانة العلمية، والموهبة
الأدبية والنظرة الفلسفية المتأملة، ومن هؤلاء د.على عبد المنعم المفتى
أستاذ طب وجراحة العين والذي ألف كتابا راقيا عن الفرق بين البصر والبصيرة،
بعنوان "عين العقل وعقل العين".
ويقول المفتي:" كل إمرئ يرى على هواه، وكل يرى بطريقته الخاصة، والله جل
شأنه له فى هذا حكمته.. وقد دفعنى تصرف بعض المرضى بالنظر فى رؤية
البصيرة.. حيث إنها تتفاوت كثيرا من شخص إلى آخر من حيث المقدرة والحاجة
للإبصار وثقافته العامة..إذ يدعى الكفيف أحيانا أنه يرى الضوء حينما يفتح
نافذة الغرفة، وشخص ثان ضعيف البصر يدعو إلى معجزة لرؤية بسيطة أن يرى أمام
قدميه، ويدعى أنه بتلك الرؤية سيرى الدنيا بأكملها وشخص ثالث يصر على حفظ
نظره الحاد بنظارة طبية ليستطيع مشاهدة أصغر التفاصيل تأكيدا على قوة
إبصاره، ولكن قد يكون ضيق بصيرته يدعو للأسف ربما لطبيعة شخصيته، وشخص رابع
يرى الدنيا بنظارة خاصة من العملة المعدنية المثقوبة ويبصر الناس والأشياء
سواء.. حسب سماعه لرنة النقود تقييما لما يراه حوله".
ويفرق الفقي بين البصر والبصيرة بقوله:"تقسيم الإبصار فسيولوجيا هو تحديد
لمدى رؤية ما هو مرئى، ولكن البصيرة هى رؤية ما هو غير مرئى، وكل يرى على
هواه، وكل يرى بطريقة مختلفة، لقد نوه كثير من علماء الإنسانيات والفلاسفة
بعدم اهتمام معاهد التعليم بتعليم الإدراك الحسى على النحو الأكمل.
وبمقارنة مناهج التعليم المختلفة نجد مما يدعو إلى العجب ألا يبذل الجهد
الكافى لتعليم الأطفال الألوان المختلفة، ولكن يبذل مجهود كبير لعلم الحساب
مثلا.
ولذلك يجد البعض صعوبة فى تعريف بعض الألوان أحيانا، إن ألوان الطيف جزء بسيط من دنيا البصر، ولكن قد يحتاج إلى كثير من الفهم.
وعن الابصار يقول: "نحن نادرا ما نفكر فى الإبصار، على اعتبار أنه شىء
تلقائى ولكن البصيرة بالطبع أكثر كثيرا من البصر.. من المدهش حقا إهمال
تعليم كيفية المشاهدة لفحص شىء بمنظار، ومثلا فى مناهج تعليم الطب لا يوجد
كتاب أو منهج لتعليم الطبيب المبكر لكى يلاحظ التغييرات الدقيقة التى تحدث
فى الأنسجة الشفافة فى بعض الأمراض، والتى قد لا يلمحها بعض الأطباء، بصرف
النظر عن مدى خبرتهم العلمية الأكاديمية، هل هو نقص فى النظر أو كسل
البصيرة، أم هما متداخلان إلى درجة الاندماج، مثل آخر بسيط ولكن يفسر نفس
المعنى، هو قدرة المصور المحترف لرؤية منظر يدفعه إلى تسجيله بالكاميرا من
زاوية معينة، قد تسهو على شخص آخر.
يرى البعض أن الإبصار قدرة ذات درجات متباينة قد تصل إلى حد الموهبة، مثل
استطاعة أى شخص متعلم قراءة أبيات الشعر، ولكن قلة بسيطة من الناس هم
القادرون على الإحساس باستخدام طريقتين مختلفتين، كل يستخدم أبعادا مختلفة
للنظر لرؤية العمل الفنى داخل قطعة الحجر.
من المعروف أن الأعمال الفنية للرسام القدير فان جوخ تقدر حاليا تقديرا
عظيما على عكس عدم قبول أعماله وهو على قيد الحياة، لقد كتب كثيرا عن
أمراضه العقلية وتأثره بالعقاقير، وإصابة عيونه بمرض الجلوكوما، أو المياه
الزرقاء التى تصيب الإنسان بضيق فى مجال الرؤية مما أدى إلى استخدام الخطوط
القصيرة فى الرسم التى اشتهر بها أعماله العظيمة.
ولكن لم يذكر الكثير عن اهتمام فان جوخ وإعجابه بالفن اليابانى الذى يكثر
فيه استخدام الخطوط الرأسية القصيرة، والتى يتأثر بها وجعلته يرى الرسم
بنظرة مختلفة عن النظرة الغربية التقليدية فى تلك الفترة فى أوروبا، وربما
كانت رؤيته الطبيعية هكذا، يعبر عنها برشته بطريقته المألوفة.
ولقد تأثر كثيرا الفنان بيكاسو بالفن البدائى والذى ساعد على تطوير أعماله
الفنية وأنشأ مدرسة الرسم المعروفة بالمدرسة التجريدية الحديثة، لقد زادت
أبعاد النظر لرؤية الأعمال الفنية الحديثة، ويمكننا الآن رؤية هذه الأعمال
الفنية بنظرة مختلفة بعد إنشاء مدارس الرسم الحديثة، مثل التكعيبية
والسرياليزمية والتجريدية..إلخ.
ولكن فنان رؤية خاصة ويختلف سلوك الفنان لمشاهدة الأعمال الفنية ولذلك نجد
المتعة فى مشاهدة أعمال هؤلاء الفنانين، ولكن من الأمتع رؤية هؤلاء
الفنانين التشكيليين وهم يصفون أحد هذه اللوحات الفنية، وقد تشعر بما تراه
عينا الفنان بمشاهدة تصرفاته وهو يشاهد تلك الأعمال.
ولذلك نجد الفنان القدير صلاح طاهر يرى بعض أعماله بطريقته الخاصة، وينفعل
مع شعوره وتشعر بزهق أنفاسه العميقة ونشعر بضربات قلب هذا الفنان من
تعبيرات وجهه، وحيثما يقوم بوصف إحدى لوحاته تكاد تتخيل سماعك للموسيقى
المنبثقة من ألوانها، وهى رافع ذراعيه إلى أعلى وينحنى جسمه كأنه قائد
الأوركسترا يقود فرقته غازفا لإحدى روائع سيمفونيات بيتهوفن، هذا بالمقارنة
إلى إنسان آخر لا تسترعيه هذه اللوحة اهتماما يذكر ويراها بعين عقله
العادى كأنها مجموعة ملساء من الألوان.
أما الفنان القدير متعدد المواهب الأستاذ حسين بيكار فتراه يستمتع بلوحة
جميلة وترى وجهه مبتسما وتنحنى رأسه برفق فوق كتفه وتكاد تشعر وروحه فى
سلام وهدوء كأنه فى محراب خاص، وتكاد ترى فى عينيه كيف تمتزج الحقيقة
بالخيال الحالم.
من الواضح أن عيونا ترى أكثر كثيرا مما يفهمه العقل، لذلك يجب أن تعطى
الفرصة لعقلنا لإبصار وإدارك كل ما تراه العين، وإلا تعتبر عيوننا عدسة
زجاجية فقط تنقل المنظر إلى عقلنا الذى كثيرا ما يكون فى حالة نفسية معينة،
تضفى على رؤيتنا طابعا خاصا تعكس حال مزاجنا الأجدى أن ننظر بعقل عيوننا
لزى الدنيا على حقيقتها ونعى معناها بعد مشاهدة وفهم ونقد وهضم كل ما تراه
العين، وربما ما تراه العين من جمال وفن قد يلهم عقل عيوننا وقد يحسن عين
عقلنا.
إن سرعة عجلة حياتنا فى عصرنا الحديث وشعورنا بالتوتر الدائم قد إنسانا
أغلى ما لدينا من نعم الله علينا نعمة البصر، ربما الدعوة للتمهل لحظة لكى
نرى ما نشاهد بصورة أعمق ومجال أفسح، قد يفسح صدورنا ويمتع عقلنا.
إن فى دنيانا الكثير للمشاهدة ربما الاستمتاع بنعمة البصر قد تكون عبادة وحمدا لله على نعمته.