إن الذى يتأمل ويتفكر فى الأسرار الباهرات والآيات المعجزات ،والمخلوقات يدرك عظمة رب البرية سبحانه ....
الذكر
هو قوت القلوب الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً وهو عمارة ديارهم
وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق وهو ماؤهم الذي يطفئون به التهاب
الحريق وهو دواء أسقامهم والسبب الواصل وهو العلاقة التي بين العبد وعلام
الغيوب، عباد الله وبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون
عليهم به المصيبات إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم وإذا نزلت بهم النوازل
فإليه مفزعهم وهو رياضهم وجنتهم التي فيها يتقلبون وهو رؤوس أموالهم
وسعادتهم التي بها يتجرون فهو يدع القلب الحزين ضاحكاً مسروراً والذكر
عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة فذكر الله في كل حال وإذا واطأ القلب
اللسان في ذكر الله نسي في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله عليه كل شيء وكان له
عوضاً من كل شيء، ولقد زين الله بذكره ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار
الناظرين، والذكر باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده مالم يغلقه
العبد بغفلته.
روي أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها سُئلت عن
أعجب ما رأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت : كان كل أمره
عجباً ، أتاني في ليلتي التي يكون فيها عندي ،فاضطجع بجنبي حتى مس جلدي
جلده ، ثم قال : يا عائشة ألا تأذنين لي أن أتعبد ربي عز وجل؟ فقلت: يارسول
الله : والله إني لأحب قربك وأحب هواك - أي أحب ألاّ تفارقني وأحب مايسرك
مما تهواه - !!
قالت: فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب
الماء، ثم قام يصلي ويتهجد فبكى في صلاته حتى بل لحيته، ثم ركع وما زال
يبكى حتى بلل حجره بدموعه، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض ، ثم اضطجع على جنبه
فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الفجر، رآه يبكي فقال يارسول الله :
مايبكيك وقد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك وماتأخر؟
فقال له: ويحك يابلال، ومايمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة هذه الآيات :
إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {آل عمران: 190-191}فقرأها إلى آخر السورة ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها !!
ومعنى الآية أنه تعالى يقول:
إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه
في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من
كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان
ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص، وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول
هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر
الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم، ولهذا قال: لأولي الألباب.
أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا
كالصم البكم الذين لا يعقلون...
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ..
أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم. ويتفكرون
في خلق السموات والأرض: أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة
الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته...
هذه الآيات التي
أبكت نبينا صلى الله عليه وسلم أيها الأحبة وأقضت مضجعه ولم تجعله يهنأ
بالنوم في ليلته تلك فكان يقرؤها في صلاته ويبكى قائماً وساجداً وبكى وهو
مضطجعاً ، نعم إنها لآيات عظيمة تقشعر منها الأبدان وتهتز لها القلوب ،
قلوب أولى الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون
في خلق السموات والأرض وليست كل القلوب كذلك !
فهلا تفكرنا في
ملكوت الله ؟ وهلا أكثرنا من ذكر الله ؟ واستشعرنا عظمته سبحانه وتعالى ؟
لو فعلنا ذلك لبكينا من خشية الله عند سماع أو قراءة هذه الآيات ولكن لله
المشتكى من قسوة في قلوبنا وغفلة في أذهاننا..
إنها آيات أبكت سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ... فكم جلسنا فى يوم وتفكرنا فى خلق السماوات والأرض ؟
فهلل تفكرتم فى هذه السماء من بغير عمد رفعها وهذه الجبال من نصبها ؟ وهذه الأرض من بسطها وذللها وقال لنا فامشوا فى مناكبها ؟
إن قلوبنا غليظة لم تذق حلاوة البكاء لرب العالمين ....
لله
المشتكى من قسوة في قلوبنا وغفلة في أذهاننا. اللهم يا هادى المضلين ويا
راحم المذنبين ويا مقيل عثرات العاثرين نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين
الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم يا سامع
كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت يا من لاتشتبه عليه الأصوات يا عظيم
الشان اللهم أنر قلوبنا بنور القرآن ، اللهم إنا نسألك قلباً خاشعا
ولساناً ذاكرا وقلباً خاشعاً وعلماً نافعاً وعملاً صالحاً.