الإسلام هو المَعين الصافي للحريةِ الحقيقية
بسم الله الرحمن الرحيم.. علي مدار التاريخ البشري.. شكلت
"الحرية".. معني ومفهومًا، قيمةً وسلوكًا أمرًا "شيّب" المعنيين من
فلاسفة ومُفكرين، واجتماعيين ومُصلحين وإستراتيجيين وغيرهم. فلقد كان
موضوعًا نُـظّـر له نظريات، ووضعت له فلسفات، وخطت له سلوكيات
واستراتيجيات، وكان شعارًا لثورات، وقامت عليه دعاوي واتهامات بين الأفراد
والجماعات والدول والتكتلات.لكن الإسلام جاء بالحرية الحقيقية،
وقررها حقًا لبني الإنسان كحقهم في الحياة سواء بسواء. والحياة كمنحة
عزيزة لا يتحقق عزتها إلا بالحرية الخالية من كل صور الاستعباد لغير الله
تعالي. ومن يأب العبودية لله تعالي فقد استـُعبد لغيره تعالي، وأستُذل له،
وتعس دنيا وآخره: "تعس عبد الدينار والدرهم، والقطيفة والخـََـمِصَةِ: إن
أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرضَ"(رواه البخاري). لذا كان وصف العبودية لله
تعالي أرقي وصف للأنبياء والمرسلين ومن سار دربهم نهج سبيلهم:"سبحان الذي
أسري بعبده ليلًا.."(الإسراء:1).وهاهو خاتم الأنبياء
والمرسلين محمد صلي الله عليه وسلم، يعلنها صريحة لعمه "أبي طالب" "وسيط
التفاوض غير المباشر" بين قريش، ورسولنا الأكرم صلي الله عليه وسلم،
لإثنائه عن دعوته الشريفة: "والله، يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني،
والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما
تركته)"(السيرة النبوية لابن هشام،ج1، ص:266). فالإسلام يرسخ فينا ألا
نكون عبيدا لبشر أو لدنيا أو لشهوة أو لمال أو لمتاع أو لجاه، أو لولدن وأن
تكون عبوديتنا لله وحده، وفي هذا قمة الحرية والتحرر الذي جاهدت لتحقيقه
البشرية عبر كل عصورها.كما حرم الإسلام كل صور الاعتداء علي
الدين والنفس والعقل والعرض والمال، لينعم الناس بحريتهم الحقيقة في
تعاملهم مع هذه "الكُليات الخمس". بل لقد ذهب البعض لاعتبار "الحرية"
مقصدًا سادسًا من مقاصد شرعنا الحنيف بعد تلك المقاصد والكـُليات الخمس.لقد
جعل الإسلام دية القتل الخطأ، وكفارة اليمين، إعتاق رقبة، وتحريرها من
أسار العبودية والذل. فكما تسبب "القاتل/ الحالف" في حرمان المجتمع من
فرد / حق من أبنائه، بالقتل/ الحلف الخطأ، فعليه تعويض المجتمع بإعطاء
الحرية لمن كان "ميتًا.. عبدًا رقيقًا"، فالرق موت، والحرية حياة. كما
جعل الأبواب مُشرعة للقضاء علي كل صور الرق والعبودية و الأسر، فجعل لها
مصرفًا من مصارف الزكاة الثمانية.ولقد ضرب السلف الصالح أروع
الأمثال العملية علي قيمة الحرية، فاهو الفاروق "عمر بن الخطاب" رضي الله
عنه يطلقها صريحة، فيسطرها التاريخ بأحرف من نور:"متى استعبدتم الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحرارًا". فربما عاني "القبطي" أو غيره من أبناء عشيرته
من سياط الرومان، لكنه لما علم أن عدالة الإسلام، وعدل خليفته "عمر" رضي
الله عنه بخلاف ذلك ذهب ليأخذ حقه (في حادثة السباق المشهورة)، ويقتص من
ابن والي مصر "عمرو بن العاص" رضي الله عنه. وهنالك "ربيعي بن عامر"
يؤكد لأكاسرة الشرق، وكذا لقياصرة الغرب في آن معًا رسالة الإسلام،
ولُبها:"لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلي عبادة رب
العباد، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام".
فالإسلام جاء مُحررا للناس، لا فرق بين فرد وآخر بسبب من لون أو نسب أو
عصب. جاء ليحرر العقل من عادات وتقاليد العبودية لغير الله تعالي، ويقض علي
كل مظاهر العنصرية البغيضة.والحرية في الإسلام تتعدي المسلمين
إلي غيرهم، فلهم، داخل المجتمع المسلم، حرياتهم في الاعتقاد والتعبد، وعدم
التمييز في التعامل معهم. كما لهم، داخل المجتمع الإنساني، حق التعارف
والاعتراف، المصاحبة بالمعروف، وفي المعروف، وللمعروف وفق "التقوي/ والعمل
الصالح" الحارس الأساس للحريات والحقوق، والمقياس الذي يزن علاقات
وتفاعلات الأسر والأقران والبشرية جمعاء، ويحل تلك المعضلة المتعلقة بشأنهم
جميعًا. "وازع داخلي" يبغي المثوبة من الله تعالي، ومجالًا كسبيًا
يتنافس فيه المتنافسون. فتلك هي الغاية هي من جعلهم مختلفين أجناسا وألوانا
ولغاتا، متفرقين شعوبا وقبائل:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13).والحرية في الإسلام
منضبطة فكرًا وتفكيرًا وعملًا ومصالحًا، وليست هوي أو شهوة أو إضرارًا أو
اعتداء أو تعديًا علي ثوابت الأمة أو حني معتقدات الآخرين:"ولا تسُبوا
الذين يَدعـُون من دون الله فيسُبوا الله عدوًا بـِغير
علمٍ.."(الأنعام:108).،"ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه،
بل في الأنفس المختلفة عليه، فحكمك على شيء هو عقلك أنت فيه، والقرآن نفسه
قد أثبت الله تعالى فيه أقوال من عابوه، وحاورهم حوارا موضوعيًا ومنطقيا،
ليدل بذلك على أن الحقيقة تحتاج إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يُقر
بها ويقبلها، فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود
والاستمرار"(بتصرف من كلام "الرافعى": من وحي القلم، مشروع مكتبة الأسرة
2003م، ص:163ـ 165).فيا من: تنشدون الحرية الحقيقة، ومعينها
الصافي. يا من تبحثون عن الرؤية الإيجابية لتحرر النفس والمجتمع البشري،
وعن التوازنات والوسطية في قيم الحياة.. الفردية والمجتمعية والإنسانية. يا
من أعياكم العثور عن الأسس الحقة للتعارف والتواصل مع الذات، و(الآخر)،
والأسلوب العلمي والعملي للخيارات السليمة للأفراد والمجتمعات..إنه الإسلام
يحقق كل ذلك وغيره، فهو المَعين الصافي للحرية الحقيقية.
الكاتب:
أ.د. ناصر أحمد سنهالمصدر: موقع صيد الفوائد