الإرادة
هي القوة التي تتصدى لما هو أبعد وأشمل من تيار الذنب وتيار العادات
المحرمة ، فهي القوة التي تعد لمواجهة أقسى المتاعب والمشاق .
وذلك متى عرفنا أن أيّة أمة من الأمم , لا يمكنها بلوغ أهدافها وغاياتها ما لم تتوفر لديها الإرادة والعزم
والتصميم ، لأن النفس الإنسانية ضعيفة وسريعة التـأثر منذ تكوينها لا
تستطيع أن تتوصل إلى غاية أمامها مشاق وعقبات ، ما لم يكن لها مدد يغذيها
بالعزم , وهذه طبيعة الإنسانية كما قال عنها القرآن الكريم :
( إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا *
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ
هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ) المعارج : 19-22
ومتى عرفنا أن فريضة الصيام جزء من تشريع يرتبط بحياة الأمة التي تسعى إلى
بلوغ أرقى مراتب الكمال والتفوق بين الأمم ، وتطمح بكل وسعها إلى احتلال
مركز الصدارة في الشعوب والمجتمعات ، وتتطلع إلى انتهال منابع الخير
والفضيلة في الميادين والحقول كافة ، لا بدافع الإستعلاء أو الإستبداد
بمقدرات وطاقات الإنسانية ، بل لأنها تحمل أكفأ رسالة إلى البشرية ، وأصدق
عقيدة ، وأتقن منهج لحياة الإنسانية ، قد فرض الله تعالى على الأمة إنتهاجه
وتبليغه .
( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران : 104
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )
آل عمران : 110
وهذه غاية هامة ومهمة شاقة تقف أمامها الدنيا بجلبتها وزبرجها , وتعترضها
ألوان من العقبات والعراقيل ، وتصطدم معها كل قوى الشر والضلالة والتخلف
والجهل .
ومن الواضح كلما عظمت الغاية ، كلما كثرت أمام تحقيقها الصعاب والمشاق ، إذ
تحتاج الأمة إلى صبر أكبر من الصعاب ، وهمة أعظم من العقبات ، صبر لا كصبر
البهائم واستسلامها بيد جزارها وهي لا تدري إلى مذبحها أو إلى مرتعها ، بل
هو الصبر الذي تمده السماء بهالة من الوعي والهدى والحب والإطمئنان
والحكمة والإيمان بالمشرع ودعمه ورعايته .
وقد عبر القرآن الكريم عن الإرادة والعزم ، بتعبير يحكي واقع الإرادة في الإسلام بكل خصائصها ، فقال تعالى :
( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ) البقرة : 45
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) آل عمران : 200
وفريضة الصيام تساهم مساهمة عملية في بناء الشخصية الرسالية ، وخلق عنصر
القوة فيها ، ووضعها في مستوى مسؤولياتها ، في سبيل أداء الأمانة ، كشخصية
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تصميمه وإرادته وصبره ، وبالتالي بناء
أمة صابرة ومثابرة ، محتسبة في طريقها للوصول إلى أوج الكرامة والعزة
والشرف .
فالإنسان الصائم هو الصابر عن ممارسة ألصق حاجاته الطبيعية والتي قد يشق
عليه الصبر عنها طيلة ساعات من الزمن , ويتحمل صراعا عنيفا مع رغبته للطعام
والشراب , وإلحاح وضغط الغريزة عليه ، وينتصر في هذا الصراع على رغباته
وشهواته ، فهذا الإنسان حقيق بأن يتهيأ إلى إنتصار أكبر وفوز أعظم عند
ملاقاته الصعاب والعراقيل في طريق كماله وعزته .
وهذا مدلول قول الإمام علي (عليه السلام ) : (لا قوي أقوى ممن قدر على نفسه فملكها - لا عاجز أعجز ممن أهمل نفسه فأهلكها .
فهو يؤكد أنّ ميدان النفس شاق للتغلب على اندفاعاتها وأمانيها ونزواتها ،
فالذي يجتاز هذا الميدان بنجاح سوف يتهيأ لإجتياز ميدان يمتزج فيه الألم
والعرق والدم والدموع .